أيمن لطفى و( ما وراء الصورة) الناقد ياسر جاد
تاريخ الاضافة:الأحد 04 أيلول / سبتمبر 2016 09:17 مساءً عدد الزيارات:5294( قراءة فى التشكيل المصرى المعاصر)
أيمن لطفى و( ما وراء الصورة)
خاص لعرب فوتو
الناقد ياسر جاد
مصر
تأتى التجربة الجريئة والمتطلعة للفنان / أيمن لطفى . شبيهة بتلك المهام الصعبة ، والتى تأخذ على عاتقها تحرير الصورة من تلك القيود التى فرضت عليها من جراء التوظيف اﻹعلامى والمجتمعى المقولب لها . والذى يرتبط بالإحتياج ذو العلاقة بالسببية المحدودة ، سواء كانت توثيقية أو إخبارية أو إعلانية .....إلخ من تصنيفات الصورة ، وهى أيضا من المحاولات التى تحمل هم تغير نظرة المجتمع لمفهوم الصورة ومدى أهميتها من خلال تلك المهمة الجادة والمجتهدة والمبدعة ﻹعادة تقيم الغرضية من طرح الصورة ، وصياغة محتواها ، وتحميلها بقضايا وأفكار وإشكاليات ، وفتح جسور التواصل معها بالبصر والعقل والحس مجتمعين ، بعد أن كان التعامل معها يقتصر على الجانب البصرى ذو المسحات التعبيرية ذات العلاقة باﻹيحاء ، ومن وجهة نظرى فهى من التجارب القليلة التى تتعامل مع الصورة ككيان محمل بأكثر مما يبدو عليه فى ظاهره .
كما أتت عنونة المقال لتطرح لنا من خلال تلك التجربة ( إشكالية ) التقيم والمعايرة والتفنيد لواحدة من أطروحات ( الصورة ) . وتزج بما خلفها من دعم سواء على مستوى التقنية أو على مستوى المفهوم والفكر والجهد ومحاولات التجريد فى تلك اﻹشكالية . بل وتمتد إلى ما ورائها من غرضية الطرح ، وما يهدف إليه طارح الصورة من قصدية وغرض ، بل وتتخطى كل ذلك لتصل إلى دفعنا نحو إشكالية أبعد ، تعزف أدوات اﻹبداع لدى العديد من مبدعينا إلى الخوض فيها ﻷسباب عديدة ، أهمها تلك الرفاهية الثقافية والفكرية التى لا بد وأن يكون عليها المبدع ، بل ويكون عليها إستيعاب ودعم مجتمع المتلقى لذلك النوع من الطرح ، وهى تلك اﻹشكالية الخاصة بإبداع المستقبل واﻷمنية . فغالبية مبدعينا ينتجون فنا ذو علاقة بنوعان من الزمن والوقت . أولهما هو ذلك الطرح الخاص بالماضى بما يزخر به من تراكمية مركبة ومعقدة على كافة الخلفيات وتنوعها . والثانى هو ذلك الطرح ذو العلاقة بالتفاعل مع مضارع الزمن وحاضره . أما هذا الطرح الهادف إلى اﻹبتكار والدفع بالخيال سواء على مستوى ( التقنية ) أو على مستوى ( الفكر ) ومستقبل كلاهما فسيبقى كما ذكرت رهنا بطريقة وسياق التفكير المجتمعى ، ولا ننكر وجود بعض المحاولات والتى أتت على إستحياء وحذر مترقبة ردة الفعل الناجم عن معايير الأعراف والعادات والتقاليد .
الصورة وما لها من تعريفات عديدة غاص فيها أهل الشرح والتأويل ليست هى مقصد طرحى . كما أن تقنياتها وووسائل صناعتها سواء بالطريقة الكيميائية القديمة أو بطريقة إستشعار اﻷجسام واﻷشكال ( الطريقة الحديثة / الديجيتال ) قد يقصر عنها مثل ذلك المقال ، ولا أجد أن إضافتى ستحدث فارقا فى تلك المفاهيم واﻹصطلاحات وطرق اﻹرشاد للمارسة ، فقد قتل الموضوع بحثا وتنظيرا . إلا أننى أجد أهمية الصورة بالنسبة لى هو كونها بديلا نموذجيا لمفهوم اللغة التى لا تختلط على اﻷجناس .، ولا تخطأ معانيها الظاهرة اﻷبصار ، وتنطق بترجمتها اﻷلسن فى عفوية وفطرة وسلاسة لا تحتاج إلى ثقافة وعمق ووجهة نظر ، وأعتقد أن هذا الجانب من اﻷهمية قد أدركه الفنان / أيمن لطفى . الذى وجد فى الصورة الضوئية إمكانيات تتوافق مع ما يطمح إلى طرحه، بل وتتصف بمرونة ناسبت خياله فى سرد قضاياه .وطرح وجهة نظره .
وقد تعامل / أيمن لطفى مع الصورة الفوتوغرافية من وجهات نظر مختلفة . فتارة تعامل معها فى مباشرة واضحة وصريحة مسبوقة بإعداد لمحتواها ، وتجهيز لمحيطه من خلفيات وإضاءات وملابس وإكسسوارات أعدها وفق رؤية وقصدية ، وتعابير إنسانية ، و رمزيات وعناصر موحية ومصدرة لرسائله ، كما ظهر فى كامل أعماله المباشرة . وتارة تعامل معها كعنصر من عناصر منجزه فى المشهد المفاهيمى المركب . والذى يقبل التداخل والتضافر مع عناصر أخرى ، ويحمل تنوعات من الشفافية لطبقات منفصلة صاغها فى تناغم .، صانعا شبكية تعبر عن تضاريس المشهد . من مؤثرات وطبقات تنقية ( فلاتر ) ، وعناصر مضافة عن قصدية ( مؤثرات ) وسابق إعداد وتجهيز . محيكا من كل تلك المفردات لوحته الخاصة . ولا أدل على ذلك من أعماله المفاهيمية المسطحة وكذلك تجربته فى ( العمل المركب و الفيديو أرت ) . فالمنتج لدى / أيمن لطفى يخرج من نفق الصورة الفوتوغرافية المحضة ، إلى باحة اللوحة الفوتوغرافية ذات الطابع المفاهيمى والتجريدى والسيريالى . فاﻷولى يحيطها الجمود والمحدودية مهما كانت نابضة . أما الثانية فهى فى حالة نتح ( تعرق ) دائم . تارة بالدراما وتارة باﻹيحاء وتارة بالحديث عن موضوع الطرح ، ورابعة بالحلم واﻷمنية وخامسة بالتفسير من وجهة نظره لواحدة من اﻹشكاليات . وصناعة اللوحة الفوتوغرافية وإبداعها لدى / أيمن لطفى هو تعبير موازى لعنونة المقال ( ما وراء الصورة ) .
وبالدخول إلى تجربة / أيمن لطفى نجدنا أمام واحدة من التجارب الناتجة عن ذلك الصراع الرامى إلى تحرير المشهد ، وما يحمله من جملة فكر ومفهوم من كونه مشهدا خاضعا لمسمى الصورة الفوتوغرافية وقيودها ، إلى براح اللوحة الفوتوغرافية ، وما منحه لها من حرية لا حدود لها . محطما كل تلك العقبات التى تمثل محدودية الصورة الفوتوغرافية من تصنيفات ذات علاقة بالتصنيف الغرضى . فهو ممن يعتمدون أسلوبا كلاسيكيا فى بداية العمل ، يعتمد فيه على كروكيات مبدئية تمثل خطة عمله التى تحدد له مرحلياته . إلا أنه يقتنص تلك الفسحات من الحرية داخل حدود كل مرحلة مما يكسب منجزه هذا التميز ، وهو من ذلك الصنف الذى لا يمكن أدواته من أن تفرض عليه حلا بعينه ، بل يحرص دائما على إخضاع أدواته بما يناسب تلك الفكرة المسبقة والتى أدت فى البداية إلى نقطة ( الكروكى ) ، والفكرة وإشكالية الطرح فى تجربة / أيمن لطفى هى حجر الزاوية فى
كامل العملية اﻹبداعية ، فهو وأدواته يدوران فى أفلاكها ، مستعينين بكل ما يسبب لهما اﻹتزان و الرزانة فى عملية اﻹحاطة بفكرة العمل وتنفيذها . وهو من صنف هؤلاء الذين لا يغفلون التفاصيل ومصدرها ، فهو لا يستعين بتفصيلة أو مؤثر أو عنصر من عناصر اﻹكسسوار السابة التجهيز . بل يعمد إلى صناعة كل تلك اﻷدوات بنفسه ، ومن خلال تصميمه الخاص لها ، بما فى ذلك المؤثرات الرقمية والتى تتوافر فى البرمجيات بأشكال تصل فى أعدادها إلى اﻵلاف فهو أيضا لا يستعين بها ، بل يذهب إلى صياغة مؤثره من خلال جملة مكتوبة . أو عنصر زخرفى ، أو تأثير نباتى أو عضوى أو تكرارات هندسية .....إلخ ...ويقوم بمعالجتها لونيا وكذلك رقميا . لتناسب ما يخدم وجهة نظره فى لوحته .
وقد جاء طرح / أيمن لطفى متصفا بتلك التصاعدية الناتجة عن إحتياج المبدع إلى مساحات فكرية أكثر رحابة . وقد تدرج فى منطقية متعقلة . ولم تقفز خطواته فى تجربته من مرحلة ﻷخرى تلك القفزات الهوجاء . بل كانت قفزاته من صنف تلك التى لها علاقة بلياقته الفنية التى كان يحرص على جاهزيتها وإرتفاع مستواها من خلال إستغلال كل إمكاناته الفنية والفكرية والثقافية ، وإلمامه بمسايرة القفزات العالمية فى فرعية منتجه ، فجائت اللقطة المباشرة سابقة التجهيز كمرحلة أولى فى تجربته وقد أخذت تتنوع بين اللقطة المباشرة المقتنصة ، واللقطة المباشرة المعدة بخطة تخدم هدف الطرح ، كتلك التجارب المشتركة مع الفنانة المصورة / ريهام السعدنى والتى شاركته من خلال الرسم والتلوين الحر ﻷجساد الشخوص فى العمل ، وما يتبع ذلك من إهتمام / أيمن لطفى بتفاصيل المشهد من عناصر أخرى مثل اﻹضاءة ووضعية أبطال المشهد واﻹكسسوارات وغيرها و تعد تلك التجربة من التجارب المشتركة المميزة بين إثنين من الفنانين يمارس كل منهما إبداعه بوسائط تختلف عن اﻷخر ، إلا أنها إتسمت بتناغم الحوار الفنى بينهما والذى أدى إلى جملة بصرية متسقة وتحمل مذاقا جديدا .
ثم إنتقل الفنان / أيمن لطفى إلى مرحلة أكثر تقدما وهى تلك المرحلة التى تعد بداية اللوحة المفاهيمية . والتى طرح من خلالها نماذج عدة حملت إنعكاسات لمفاهيم إجتماعية وسلوكية وسياسية . كمجموعة ( المتخفى ) . ومجموعة ( الجهاد ) . ومجموعات الصفات والمؤثرات ، وبعض اﻷعمال التى تطرح المفاهيم من خلال تعابير اﻹيحاء طويلة التأثير . والتى تلعب مؤثراته الخاصة دورا فى إظاهر غرضية الطرح والتناول . وتخلل تلك المرحلة تجارب ناجحة صاغها فى صورة أكثر شمولية ، وكذلك قام بإدخال عناصر جديدة الموسيقى والفيلم المصور ، وقام بطرح مفهومه من خلال ( العمل المركب ) . الذى منحه مساحة أكثر براحا للإستفاضة فى عرض وجهة النظر كعمله المركب والمسمى ( اللعبة ) والذى عرضه بقصر الفنون ضمن معرض ( ( why not ، وكذلك عمله المركب ( التطهر ) والذى عرضه من خلال المعرض العام فى دورته اﻷخيرة بقاعات عرض ( قصر الفنون ) . ذلك العرض الذى طرح فيه عرض صورة مادته الفلمية على مسطح مائى تمثل فى حوض إستحمام . ثم إنتقل إلى مرحلة جديدة أكدت على تطور تجربته وأكدت على نهمها المحمود تجاه طرح المزيد من الصياغات ﻷفكاره وأطروحات ومفاهيمه ومتونه البصرية . وهى تلك المرحلة ذات السياق السيريالى . والتى أظهرت جانبا جديدا فى تجربة / أيمن لطفى . وهو ذلك الجانب الخاص بحلول المساحات وأسس التصميم . وقد تخللت هذه المرحلة بعض المحاولات ذات المسحات التجريبية ، وتعد هذه المرحلة من المراحل الناضجة فكريا لديه بشكل كبير ، حيث نجد طرحا أكثر تركيزا على قضايا بعينها . كتجريف الأراضى الزراعية والعشوائيات ، وتفاوت تحقيق العدالة اﻹجتماعية والتعبير عن قضايا إجتماعية شديدة الصلة بالواقع اﻹجتماعى واﻹقتصادى والسياسى ، ولكن أجمل ما فى تلك المرحلة من وجهة نظرى . هو تلك الحالة من التأدب فى اﻹعتراض وطرح مشكلات الواقع من خلال جملة بصرية صاغها / أيمن لطفى فى ذكاء شديد وحقق من خلالها معادلة صعبة يعجز كثيرون عن تحقيقها ، وهى عرض المشكلات وأوجه القصور وأزمات الواقع دون اللجوء إلى ما يسيء ويخجل ، وبرمزيات لا تهين واقعه اﻹجتماعى ومشكلاته المزمنة والممتدة الجذور ،
وبالذهاب إلى إستعراض لنماذج من أعمال الفنان / أيمن لطفى ، والتى أجد حيرة فى تحديد ثلاثة منها ، إلا أن مساحة المقال قد تدفعنى إلى إختصار إختيارى وإقتصاره على نماذج ثلاثة .تمثل ثلاثة من مراحله ذات العلاقة بالمفاهيمية ذات القصدية . ( اﻷول ) : وهو عمل يمثل مرحلة لوحة اﻹلتقاط المباشر ، وقد وقع إختيارى على العمل المسمى ( أبنوس ) والذى يمثل تلك الفتاة السمراء الفاتنة والتى تتطلع فى إلتفاتة ذات ثقة ، و تحمل تلك الملامح الشرقية الخليطة بين العربية والأمازيغية والنوبية ، والتى تصدر لنا إحساسا مباشرا بسابق المعرفة لشخصها ، بل وتصدر لنا أيضا إحساسا بنبرة صوتها ونعومته ، وكم ما تتشرب به من ماء اﻷنوثة والسحر الشرقى العالق فى تفاصيل قسماتها وقد ذادتها صبغة الشفاة الداكنة أنوثة مضافة إلى لونها الخمرى الداكن ، وربما ألهم التأثير المضاف إلى جسدها والذى جاء فى محاكاة لتموجات ثمرة الخشب والتى تبدو كنوع فاخر كاﻷبنوس ، قد ألهمت / أيمن لطفى تسميتها ، وجائت الخلفية السوداء غاية فى التوفيق لتعبر عن حضور الفتاة فى العمل وبطولتها فى المشهد ، والذى نجده يمتد المفعول والسياق فى داخلنا ، رغم كونها لقطة تسجل لحظة تعبير ذاتية للفتاة ، فقد أجبرتنا تلك اللوحة إلى ممارسة الخيال من حديث أو إستماع أو تتبع لتلك الفتاة اللامعة والمضيئة فى هذا الظلام رغم سمرة بشرتها ، وقد أكدت تأثيرات ثمرة الخشب القيمة على قيمة ومنزلة الفتاة ، سواء فى مركزها اﻷنثوى فى أسواق الجمال ، أو فى قيمتها فى عين المتلقى من ندرة صنفها فى صفات النساء ، و الجملة البصرية فى اللوحة من صنف تلك الجمل التى يصعب نسيانها وسقوطها من الذاكرة ، وإلتفاتتها صنعت تلك الحركة التى تدفع الخيال ﻹستكمال القادم من حركة الفتاة ، و تدفع الفضول إلى محاولة إستنطاقها للوقوف على نبرة الصوت لحدوث تكامل التفاعل واللقاء . وفى تقيمى لها هى من أقوى أعماله فى تلك المرحلة بشكل خاص وفى جملة تجربته بشكل عام ..
أما العمل الثانى : وهو عمل يمثل مرحلة اللوحة المفاهيمية والتى تستعرض إشكالية وظاهرة إجتماعية تعكس نتائجا مريرة ، وهى الهجرة غير الشرعية للشاطئ اﻷوربى وما ينتج عنها من أحداث ونتائج كارثية ، والذى أسماه ( الهجرة ) . ونحن هنا لن نستعرض اﻹشكالية من الجانب اﻹجتماعى والذى تم قتله نقاشا وإستعراضا ، ولكننا سنستعرض تناول / أيمن لطفى له من خلال أدواته الفكرية والفنية والتى أتت بحلول غير نمطية ، وتحمل تفكيرا منظما وذكيا مغلفان بجملة من التخيل الرائع والحرية الفكرية وحسن التوظيف لتراكبية اللوحة ، والعمل يخضح المتلقى من النظرة الأولى إلى ذلك التناول ذو العلاقة الوثيقة الصلة بعلوم أسس التصميم الموظف لخدمة المفهوم ، فقد طبق / أيمن لطفى حلوله المستخدمة بما يوافق النظرة اﻷفقية للمتلقى والتى ترى اﻹشكالية على ثلاثة مستويات أفقية . المستوى الأول : والذى يقع فى الثلث اﻷسفل من العمل ، ويتمثل فى نقطة اﻹنطلاق والتى تمثلها أرض الوطن الذى ضاق بمواطنيه . ورمز لها أيمن لطفى بحل تمثل فى نفق مظلم ذو نهاية فضية اللون يقع على حافة المستوى الثانى وهى فى اﻷصل لقطة تمثل إحدى الفتحات فى طابية قلعة ( قايتباى ) باﻷسكندرية وفى مجمله يمثل نافذة المتلقى لتلك المغامرة الكارثية .ويقف المهاجر مترقبا فى سرية ومستخفيا بجدران هذا النفق على حافة مياه البحر ، منتظرا الطوق الحامل له والعابر به لتلك العقبة المائية ، والتى تحول بينه وبين أرض اﻷحلام الواقعة فى المستوى الثالث الواقع فى أعلى اللوحة . والمستوى الثانى :والذى يقسم المشهد أفقيا ويمثل البحر المتوسط ، ذلك الفاصل بين أرض المعاناة وأرض اﻷحلام من وجهة نظر المهاجر . وقد دمج فيه أيمن لطفى لقطتان تمثلان مساحات فعلية من المسطح المائى للأسكندرية ومياه الجزيرة اليونانية . وهذا المانع هو العائق الوحيد بين شبه الحياة الواقعة فى أرض الوطن ، وبين الحياة الواقعة فى أرض أوروبا ، والمستوى الثالث : ويمثل جرفا جبليا على إحدى الجزر اليونانية التى تقع على الجانب المقابل لمدينة اﻹسكندرية ، وهو بمثابة أسوار أوروبا ، والتى على المهاجر أن يتسلقها عقب إجتيازه العائق المائى الذى يفصل بين اﻷرضين ليتسرب ويذوب فى نسيج مواطنيها يشاركهم اﻵدمية المنشودة من وجهة نظره . والمنظر يمثل لقطة حقيقية ﻹحدى جزر اليونان . والعمل فى مجمله ، نموذج غاية فى الروعة لتوصيف الفكرة وتجسيد اﻹشكالية فى لوحة فنية وعمل ذو مفهوم ، وهو من أنجح المعالجات الفكرية ﻹشكاليات الواقع فى تجربة / أيمن لطفى ، بل ومن أنجح التناولات والصياغات الفنية التى تم إسقاطها بصريا على هذه الكارثة المجتمعية ، وهو من اﻷعمال التى تتحمل اﻹستفاضة فى التحليل والشروح على المستوى التقنى والفكرى على حد سواء .
والنموذج الثالث : وهو الذى يمثل المرحلة ذات النزعة السيريالية فى تجربة / أيمن لطفى . وهو من صنف السيريالية المتصفة بهلوسات العقل الناتجة عن الشعور بالقهر ، فى مجتمع إتسعت فيه الفوارق بين الطبقات . وقد صور / أيمن لطفى تلك اﻹشكالية بمعايير الهلوسات اﻹجتماعية بما فيها من خيالات و( كوابيس ) المنام ، فقد جائت أرضية العمل لتمثل أرض مصر بصحاريها الذهبية البكر ذات التموجات التى تنم عن أنها رغم ما قطعته فى إحتضانها ﻷمم وشعوب وبشر وغزاة ، إلا أنها مازالت بكرا تعج بالخيرات المستترة والتى لم تطأها أرجل . وجاء هذا ( البراد ) الضخم ليمثل تلك الطبقة المتخمة ذات الحظوة والتى تغرق فى عصارات وحساءات هذه الأرض الدسمة ، وجاء هذا الفتاة الحامل لهذا الكوب فى ضألة وتقزم لا يسمحان ﻹستيعاب مجرد جرعة من هذا البراد الضخم ، رغم أن ما بيده من كوب يكفى لرى ظمأه ولن يشعرنا بنقص فى حجم السائل فى ذلك البراد . الصورة فى مجملها هلوسة غاية فى المحاكاة لكارثية اﻹشكالية المجتمعية ، ويحمل كذلك تنويها عن صعوبة الحلول الواقعية لتلك اﻹشكالية المجتمعية فى ضوء النسبة والتناسب بين البراد كممثل للطبقة المتخمة ، وبين الفتاة المتلهفة والمتمنىة لمجرد ملئ كوبها الصغير والذى تجد فى إمتلاءه غاية المراد ومنتهى الرضا كممثلة لطبقة السواد اﻷعظم من المجتمع . والعمل فى عموم تقيمه يضعنا أمام تجربة / أيمن لطفى وضعية لا بد لها من اﻹنتباه ، فهو يمارس فيها حلولا بسيطة سهلة . ولكنها عميقة دسمة فى ذات الوقت ، فهى تثبت أنه يمتلك من الفكر والمهارة فى الوصول إلى مبتغاه من طرح أفكاره من أقصر الطرق وأسرعها وأسهلها ، دون أن يفرط فى هيبة التناول والقصدية التى تثير الجدل وتفتح النقاش وتمارس التفاعل مع قضايا الواقع .
ربما أكون قد بدأت قراءتى لتجربة أيمن لطفى بما كنت أعتقده بأنه تناول لتجربة فوتوغرافيا الواقع ذات التقنية المبهرة والجودة العالية . ولكننى أدركت مع خوضى فى قراءتها بأننى أمام تناول فكرى تلعب فيه أدوات / أيمن لطفى دور فريق العمل المتناغم والمتراص والمتمثل فى عقله وحسه ومهارته وتوظيف أدواته، والذى يقف خلف تلك الصورة المطروحة بتوظيف ومصداقية ، ذلك الفريق الذى يمارس مهمته الصعبة على مستويين متلازمين ، أولهما : كان العدة والعتاد الفنى والتقنى وجاهزيتهما الدائمة لخوض نزال فنى يحترم الصورة وينصر وجودها ، والمستوى الثانى : يعمل فى نفس ذات الوقت على تحرير الصورة من جمود التناول المهنى والتقنى من قبل ممارسيها ، وكذلك تحريرها من القيد المجتمعى والجماهيرى لمنحها الحرية فى خوض مهماتها الصعبة فى الطرح وتناول اﻹشكاليات والقضايا ، ومنحها فرصتها فى تقديم حلول جديدة من خارج صناديق العقل ذات المنهجية المتزمتة ، فتجربة / أيمن لطفى أبدا ليست ممارسة لفن الصورة المقولبة والمقيدة ، بل هى إحدى الحلول الداعمة لرسالة الفنون ودورها فى مجتمعها بما تستند عليه من دعائم تقبع ( ما وراء الصورة )
من كتاب :( قراءة فى التشكيل المصرى المعاصر ) الجزء الرابع - قيد الطبع
بأذن من الناشر
أغسطس 2016
مجموعة من اعمال الفنان ايمن لطفي